فصل: تفسير الآيات (106- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (103- 105):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم. أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئاً منها ولا سنه لعباده. المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيها {وأكثرهم} يعني الأتباع {لا يعقلون} بل يتبعون هذه الأمور تقليداً وضلالاً بغير حجة و{جعل} في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سنَّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد والبحيرة فعلية بمعنى مفعولة. وبحر شق كانوا إذا انتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها أنتجت خمسة بطون، وقال مسروق إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق، فلكل سنة، وهي كلها ضلال، قال ابن سيده ويقال البحيرة هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة.
قال القاضي أبو محمد: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل:
فيه من الأخرج المرتاع قرقرة ** هدر الزيامي وسط الهجمة البحر

فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان. وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها، فتقول هذه بحر، وتقطع جلودها فتقول هذه صوم فتحرمها عليك وعلى أهلك؟ قال نعم قال: فإن ما آتاك الله لك حل. وساعد الله أشد، وموسى الله أحد، والسائبة هي الناقة التي تسيب للآلهة، والناقة أيضاً إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر سيبت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك، قال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا إنك مؤمن وإنه كافر»، هو أول من غير دين إسماعيل عليه اسلام ونصب الأوثان وسيب السوائب، وكانت السوائب أيضاً في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه، والقدوم من السفر، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره، يرون ذلك كعتق بني آدم، ذكره السدي وغيره وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله، والوصيلة قال أكثر الناس:
إن الوصيلة في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جذياً ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقاً استحيوها وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها.
شك الطبري في إحدى اللفظين. وأما الحامي فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب؟ وقال نحوه ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع ويذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة، والفرق بين، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له: اجعله حبساً لا يباع أصله، وحبس أصحاب النبي عليه السلام وقوله تعالى {ولكن الذين كفروا} الآية، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون، وأن الذين {لا يعقلون} هم الأتباع، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية، وقال محمد بن أبي موسى: الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب، والذين {لا يعقلون} هم أهل الأوثان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما تأخر أيضاً من قوله: {وإذا قيل لهم} والأول من التأويلين أرجح.
والضمير في قوله: {قيل لهم} عائد على الكفار المستنين بهذه الأشياء و{تعالوا} نداء بين، هذا أصله، ثم استعمل حيث البر وحيث ضده، و{إلى ما أنزل الله} يعني القرآن الذي فيه التحريم الصحيح و{حسبنا} معناه كفانا وقوله: {أوَلوْ كان آباؤهم} ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا بهذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإنما التوقيف توبيخ لهم، كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} اختلف الناس في تأويل هذه الآية، فقال أبو أمية الشعباني سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآيةا فقال لقد سألت عنها خبيراً. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة رشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام، ويظهر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية أنها لا يلزم معها أمر بمعروف ونهي عن منكر، فصعد المنبر فقال أيها الناس لا تغتروا بقول الله {عليكم أنفسكم} فيقول أحدكم عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب، وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية، قولو الحق ما قبل منكم، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: ليبلغ الشاهد الغائب، ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل.
قال القاضي أبو محمد: وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى رجي القبول أو رجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المراء ضرراً يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتما وقال ابن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم، قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت أباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار وكذلك ينبغي أن لا يعارض أنها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف، قال المهدوي: وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم، وقرأ جمهور الناس {لا يضُرُّكم} بضم الضاد وشد الراء المضمومة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {لا يضُرْكم} بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم {لا يضِرك} بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور وضير، وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً} الآية، تذكير بالحشر وما بعده، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها، وروي عن بعض الصالحين أنه قال: ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول: ما تأكل وما تلبس وأين تسكن؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.
قال القاضي أبو محمد: فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله.

.تفسير الآيات (106- 107):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}
قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله وبه نستعين، لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما، قال الواقدي: وهما أخوان وقدم المدينة أيضاً ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجراً فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري، هذا الذي قبضناه له، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأولى فاستخلفهما رسول الله بعد العصر، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء؟ قالوا: ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه السلام فنزلت الآية الأخرى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا، قال الواقدي: فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة، واستحقا، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال: برئ الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء، وذكر القصة، إلا أنه قال وكان معه جام فضة يريد به الملك، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه، فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه، ونزعت من عدي خمسمائة.
قال القاضي أبو محمد: تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين، وضعف أمره، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة.
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد ليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم، يقولون معنى قوله، {منكم} من المؤمنين، ومعنى، {من غيركم} من الكفار، قال بعضهم ذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلاً حضرته المنية بدقوقا ولم يجد أحداً من المؤمنين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية، ولا تجوز أيضاً في الوصية إلا إذا كانوا في سفر، ومذهب جماعة ممن ذكر، أنها منسوخة بقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز.
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى: {منكم} يريد من عشيرتكم وقرابتكم، وقوله: {أو آخران من غيركم} يريد من غير القرابة والعشيرة، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان، فإذا شهدا فإن لم يقر ارتياب مضت الشهادة، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين.
وقال بعض الناس الآية منسوخة، ولا يحلف شاهد، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة الفقهاء، وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثماً نظر، فإن كان الأمر بيناً غرما دون يمين وليين، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع قام لهما من شاهد أو دليل.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً، وذكر ذلك والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله المستعان، قوله: {شهادة بينكم} قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور، وقال الطبري: الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي تؤدى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله: {اثنان} قال أبو علي: التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقدره غيره أولاً كأنه قال مقيم شهادة بينكم اثنان، وأضيفت الشهادة إلى بين اتساعاً في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء، كما قال تعالى: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] وقرأ الأعرج والشعبي والحسن {شهادةٌ} بالتنوين {بينكَم} بالنصب، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراءة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة {شهادة} بالنصب والتنوين {بينكم} نصب، قال أبو الفتح: التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان، وقوله تعالى: {إذا حضر أحدكم الموت} معناه إذا قرب الحضور وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت وهذا كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] وكقوله: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} [الطلاق: 1] وهذا كثير، والعامل في {إذا} المصدر الذي هو {شهادة}، وهذا على أن تجعل {إذا} بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب ولك أن تجعل {إذا} في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله: {شهادة بينكم} إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد، وقوله: {حين الوصية} ظرف زمان، والعامل فيه {حضر}، وإن شئت جعلته بدلاً من {إذا}، قال أبو علي:
ولك أن تعلقه {بالموت} لا يجوز أن تعمل فيه {شهادة} لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه، وقوله: {ذوا عدل} صفة لقوله اثنان، و{منكم} صفة أيضاً بعد صفة، وقوله تعالى: {من غيركم} صفة لآخران، و{ضربتم في الأرض} معناه سافرتم للتجارة، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين، قال أبو علي: قوله: {تحبسونهما} صفة ل {آخران} واعترض بين الموصوف والصفة بقوله: إن أنتم إلى الموت، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى {آخران} من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه، واستغني عن جواب {إن} لما تقدم من قوله: {أو آخران من غيركم} وقال جمهور العلماء {الصلاة} هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه، وقال ابن عباس: إنما هي بعد صلاة الذميين، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما، والفاء في قوله: {فيقسمان} عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله: {من بعد الصلاة} قال أبو علي: وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ** فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم إذا حسر بدا، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله: {إن ارتبتم} شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب فيالخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة، والضمير في قول الحالفين {لا نشتري به ثمناً} عائد على القسم، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، قال أبو علي: يعود على تحريف الشهادة، وقوله: {لا نشتري} جواب ما يقتضيه قوله: فيقسمان بالله، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان، وتقديره به ثمناً، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى.
وكذلك قوله تعالى: {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} [التوبة: 9] معناه ذا ثمن، ولا يجوز أن يكون {نشتري} في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجوداً في اللغة في غير هذا الموضع، وخص {ذو القربى} بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل، وقوله تعالى: {ولا نكتم شهادة الله} أضاف {شهادة} إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها، وقرأ الحسن والشعبي {ولا نكتمْ} بجزم الميم، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن مسيسرة والشعبي بخلاف عنه {شهادةً} بالتنوين {الله} نصب ب {نكتم}، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى {ولا نكتم شهادة والله} ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازاً، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش {شهادةً} بالتنوين ألله بقطع الألف دون مد وخفض الهاء، ورويت أيضاً عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم، وروي عنه أنه كان يقرأ {الله} بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّونة منصوبة، ورويت هذه التي هي تنوين الشهادة ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب، قال أبو الفتح: أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني {شهادةً} بالنصب والتنوين {آلله} بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم {آنا} بمد ألف الاستفهام أيضاً دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن لملآثمين بالإدغام.
وقوله تعالى: {فإن عثر} استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه اتفاقاً وبعد {إن} لم يرج ولم يقصد، وهذا كما يقال على الخبير سقطت، ووقعت على كذا، قال أبو علي: والإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأخذه إثم، فسمي آثماً كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة، قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر هنا أن الإثم عل بابه وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتها لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك، و{استحقا} معناه استوجباه من الله وكانا أهلاً له فهذا استحقاق على بابه، أنه استيجاب حقيقة، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه {استحقا} لأنهما ظلما وخانا فيه، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان، وذلك هو الإثم، وقوله تعالى: {فآخران} أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهور أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي {استُحق} مضمومة التاء. و{الأوليان} على التثنية لأولى وروى قرة عن ابن كثير {استَحق} بفتح التاء {الأوليان} على التثنية وكذلك ورى حفص عن عاصم، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {استُحق} بضم التاء {الأولين} على جمع أول، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {استَحق} بفتح التاء {الأولان} على تثنية أول، وقرأ ابن سيرين {الأولين} على تثنية أول، ونصبهما على تقدير الأولين، فالأولين في الرتبة والقربى، قال أبو علي في قراءة ابن كثير ومن معه لا يخلو ارتفاع الأوليان من أن يكون على الابتداء وقد أخر فكأنه في التقدير و{الأوليان} بأمر الميت آخران يقومان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في يقومان، أو يكون مسنداً إليه استحق، وأجاز أبو الحسن فيه شيئاً آخر، وهو أن يكون {الأوليان} صفة ل {آخران}، لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له.
قال القاضي أبو محمد: ثم قال أبو علي بعد كلامه هذا: فأما ما يسند إليه {استحق} فلا يخلو من أن يكون الأنصباء أو الوصية، أو الإثم. وسمي المأخوذ إثماً كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة. ولذلك جاز أن يستند إليه {استحق} ثم قال بعد كلام: فإن قلت هي يجوز أن يسند {استحق} إلى {الأوليان}. فالقول إن ذلك لا يجوز لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها، وأما الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام نظر. ويجوز عندي أن يسند {استحق} إلى {الأوليان}. وذلك أن أبا علي حمل لفظة الاستحقاق على أنه حقيقي فلم يجوزه إلا حيث يصح الاستحقاق الحقيقي في النازلة، وإنما يستحق حقيقة النصيب ونحوه، ولفظة الاستحقاق في الآية إنما هي استعارة وليست بمعنى استحقا إثماً فإن الاستحقاق هنا حقيقة وفي قوله استحق مستعار، لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه. فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه فتشبهه بالمستحق حقيقة. إذ قد تسور تسوره وتملك تملكه. وكذلك يقال فلان قد استحق ومنه شغل كذا إذا كان ذلك الأمر قد غلبه على أوقاته، وهكذا هي استحق في الآية على كل حال وإن أسندت إلى الأنصباء ونحوه لأن قوله: {استحق} صلة ل {الذين} و{الذين} واقع على الصنف المناقض للشاهدين الجائرين فالشاهدان ما استحقا قط في هذه النازلة شيئاً حقيقة استحقاق، وإنما تسورا تسور المستحق فلنا أن نقدر الأوليان ابتداء وقد أخر. فيسند {استحق} على هذا إلى المال أو النصيب ونحوه على جهة الاستعارة. وكذلك إذا كان {الأوليان} خبر ابتداء وكذلك على البدل من الضمير في {يقومان} وعلى الصفة على مذهب أبي الحسن. ولنا أن نقدر الكلام بمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقهما والمبتغى أن يحضر وليها، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذا الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة، ثم بني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازاً ويقوي هذا الغرض أن تعدي الفعل ب {على} لما كان باقتدار وحمل هيئته على الحال.
ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار والضمير في {عليم} عائد على كل حال في هذه القراءة على الجماعة التي تناقض شاهدي الزور الآثمين، ويحتمل أن يعود على الصنف الذين منهم شاهد الزور على ما نبينه الآن إن شاء الله في غير هذه القراءة وأما رواية قرة عن ابن كثير {استحق} بفتح التاء فيحتمل أن يكون الأوليان ابتداء أو خبر ابتداء، ويكون المعنى في الجمع أو القبيل الذي استحق القضية على هذا الصنف الشاهد بالزور، الضمير في عليهم عائد على صنف شاهدي الزور.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي هذا التأويل تحويل وتحليق وصنعة في {الذين}، وعليه ينبني كلام أبي علي في كتاب الحجة، ويحتمل أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم القيام، والصواب من التأويلين أن الضمير في {عليهم} عائد على {الذين}، و{الأوليان} رفع ب {استحق} وذلك متخرج على ثلاثة معان. أحدها أن يكون المراد من الذين استحق عليهم مالهم وتركتهم شاهدا الزور. فسمى شاهدي الزور أوليين من حيث جعلتهما الحال الأولى كذلك، أي صيرهم عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته فجاراً فيها، والمعنى الثاني أن يكون المراد من الجماعة الذين حق عليهم أن يكون منهم الأوليان، فاستحق بمعنى حق ووجب، كما تقول هذا بناء قد استحق بمعنى حق كعجب واستعجب ونحوه، والمعنى الثالث أن يجعل استحق بمعنى سعى واستوجب، فكأن الكلام فآخران من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم حقهم، أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقرباهما، ونحو هذا المعنى الذي يعطيه التعدي ب على قول الشاعر:
اسعى على حيِّ بني ملك ** كل امرئ في شأنه ساع

وكذلك في الحديث: «كنت أرعى عليهم الغنم» في بعض طرق حديث الثلاثة الذين ذكر أحدهم بره بأبويه حين انحطت عليهم الصخرة، وأما قراءة حمزة فمعناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه، ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية، وذلك في قوله: {اثنان ذوا عدل منكم} ثم بعد ذلك قال: {أو آخران من غيركم} وقوله تعالى: {فيقسمان بالله} يعني الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي التحريف، وقولهما {لشهادتنا أحق من شهادتهما} أي لما أخبرنا نحن به وذكرناه من نص القضية أحق مما ذكراه أولاً، وحرفا فيه، وما اعتدينا نحن في قولنا هذا ولا زدنا علىلحد، وقولهما {إنا إذاً لمن الظالمين} في صيغة الاستعظام والاستقباح، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.